الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: اختار الله من الأزمان مواسم للطاعات، واصطفى فيها أيام وساعات، فضلاً منه وإحساناً، وكلما لاح هلال رمضان أعاد إلى المسلمين أيام دهرهم المباركات، وما يكون فيها من النفحات، شهر ينطلق فيه الصائمون إلى آفاق النقاء ويمسحون فيه عن جبينهم وعثاء الحياة، يستقبله المسلمون وله في نفوس الصالحين منهم بهجة، وفي قلوب المتقين فرحة، فرُب ساعة قبول فيه أدركت عبداً فبلغ بها درجات الرضا والرضوان.
الصيام سر بين الخالق والمخلوق، يفعل خالصاً، ويتلذذ العبد جائعاً، ويتضور خالياً، { كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به } [أخرجه البخاري]. يحقق العبد فيه درس الإخلاص لينطلق به إلى سائر العبادات بعيدا عن الرياء.
الصيام يصلح النفوس، ويدفع إلى اكتساب المحامد والبعد عن المفاسد، به تغفر الذنوب، وتكفر السيئات وتزداد الحسنات، يقول المصطفى : { من صام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه } [رواه البخاري ومسلم].
شهر الطاعة والقربى والبر والإحسان، والمغفرة والرحمة والرضوان، يقول عليه الصلاة والسلام: { إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين } [رواه البخاري].
لياليه مباركه، فيه ليلة مضاعفة، هي أم الليالي، ليلة القدر والشرف، خير من ألف شهر، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
فيه صبر على حمأة الظمأ ومرارة الجوع، ومجاهدة النفس في زجر الهوى، جزاؤهم باب من أبواب الجنة لا يدخله غيرهم، فيه تذكير بحال الأكباد الجائعة من المساكين والمقترين، يستوي فيه المعدم والموسر، كلهم صائم لربه، مستغفر لذنبه، يمسكون عن الطعام في زمن واحد، ويفطرون في آن واحد، يتساوون طيلة نهارهم بالجوع والظمأ، ليتحقق قول الله في الجميع إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
أيها المسلمون:
ذكر الناس داء، وذكر الله شفاء، والقرآن العظيم أساس الدين وآية الرسالة وروح الحياة، نزل في سيد الشهور: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، ونزوله فيه إيماء لهذه الأمة بالإكثار من تلاوته وتدبره، وكان جبريل عليه السلام ينزل من السماء، ويدارس فسه نبينا محمد كامل القرآن، وفي العام الذي توفي فيه عرض عليه مرتين، وكان بعض السلف يختم في رمضان في كل ثلاث ليالي، وبعضهم في سبع، وبعضهم في عشر، وكان الإمام مالك -رحمه الله- إذا دخل رمضان أقبل على تلاوة القرآن وترك الحديث وأهله.
وإذا أحسنت القول فأحسن الفعل، ليجتمع معك مزية اللسان وثمرة الإحسان، ودائرة الجود تتسع لمن تهفو القلوب المؤمنة من التطوع في الخير والتوسع في إسداء المعروف، والمال لا يذهب بالجود والصدقة، بل هو قرض حسن مضمون عند الكريم وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]، يضاعفه في الدنيا بركة وسعادة، ويجازيه في الآخرة نعيما مقيما، يقول النبي : { ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً } [رواه البخاري].
فتحسس دور الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، ففي ذلك تفريج كربة لك، ودفع بلاء عنك، وإشباع جائع، وفرحة لصغير، وإعفاف لأسرة، وإغناء عن السؤال، ولقد كان رسول الله أكرم الناس وأجودهم، إن أنفق أجزل، وإن منح أغدق، وإن أعطى أعطى عطاء من لا يخشى الفاقة، وكان يستقبل رمضان بفيض من الجود، ويكون أجود بالخير من الريح المرسلة (أنظر ما أخرجه البخاري في الصوم) فأكثر من البذل والإنفاق في لياليه المعدودة، والمال لا يبقيه حرص وشح، ولا يذهبه بذل وإنفاق.
وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودجاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة يقول النبي : { أفضل الصلاة بعد الفريضة، قيام الليل } [رواه النسائي وقال الألباني صحيح لغيره]، و{ إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة } [رواه النسائي وأبي داود وصححه الألباني]، ومن لم يصبر نفسه على طاعة ربه ويوطنها على محبته ابلتي بتصبيرها على المعاصي وذلها، وإن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل، وفي كل ليلة يفتح باب الإجابة من السماء، وخزائن الوهاب ملأى فسل من جود الكريم، واطلب رحمة الرحيم، فهذا شهر العطايا والنفحات والمنن والهبات، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
أيها المسلمون:
الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلدها بأحسن الأعمال، ومن نقله الله من ذل المعاصي إلى عز الطاعة أغناه بلا مال، وآنسه بلا أنيس، وراحة النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك المنزل فيه القرآن العظيم المتعدد فيه طلب أنواع المغفرة من التوسع في المعروف والبذل والدعاء وتفريج الكربات والإكثار من العبادات، إلا أنه لكل موسم خاصب، وبعض الناس أرخص لياليه الغرر، أرهق فيها بصره مع الفضائيات، يعيش معها في أوهام، ويسرح فكره حولها في خيال ويتطلع لها لعل فيها سعادة السراب، فإذا انقضى شهر الصيام لا لمال فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، ربح الناس وهو الخاسر.
والنساء حبائل الشيطان، وهن أكثر حطب جهنم، ولنجاة نفسها من الحميم واجب عليها مضاعفة الأعمال الصالحة، مما ينجيها من النيران، فليتقين الله في حرمة هذا الشهر المبارك، ولا تخرج من بيتها إلا لضرورة، وصلاة التراويح في بيتها أفضل من أدائها في الحرمين، يقول عليه الصلاة والسلام: { وصلاتها في دارها خير من صلاتها في مسجد قومها } [حسنه الألباني]، وإذا خرجت لحاجة فحرم عليها الخروج متبرجة أو متنقبة، وعليها الستر والحياء، ومراقبة ربها في غيبة وليها وشهوده، والصالحة منهن موعودة برضا رب العالمين عنها، وتمسكها بدينها واعتزازها بحجابها وسترها يعلي شأنها، ويعزز مكانتها، وهي فخر المجتمع وتاج العفاف وجوهرة الحياة، وقدوة النساء.
عباد الله:
دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلو البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وليكن لك -أيها المسلم- في شهر الصوم عمل وتهجد وقرآن، واغتنم عمرة في رمضان فإنها تعدل حجة، ولقد كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- الاعتكاف في رمضان، وهو لزوم مسجد طاعة لله -عز وجل- وابتعد عن خوارق الصوم ومفسداته، وإياك أن تقع في أعراض المسلمين، واحفظ لسانك وسمعك وبصرك عما حرم الله، يقول الإمام أحمد رحمه الله: ( ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه، ولا يماري في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً ) ومن بلي بجاهل فلا يقابله بمثل سوأته، يقول عليه الصلاة والسلام: { الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم } [رواه البخاري]، واجعل شهر صومك جهاداً متواصلاً ضد شهوات النفس، وانقطاعا إلى الله بالعبادة والطاعة، ومدارسة لآيات التنزيل، وقياماً مخلصاً بالليل، فهو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثر من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟!، ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟!؛ فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابه، وأكثر من استغفاره، واغتنموا زمن الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضعوها باللهو واللعب، وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه؟... وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ ثم إلى دار الحساب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب: عبدالمحسن بن محمد القاسم
المصدر: موقع كلمات